في رحاب آية
د. يونس الأسطل
( جزاء الصائمين قد يرتقي إلى سبعين من الحُورِ العِين )
]إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ . هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [
سورة يس (55، 56)
في مقال سابق كنت قد تناولت نعيم أهل الجنة في مطاعمهم ومشاربهم؛ تأويلاً لقوله تعالى: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ" الحاقة (24)؛ بمناسبة تَرْكِنا طعامنا وشرابنا في رمضان، وفي نافلة الصيام، ولما كان ركن الصيام قائماً على ترك الرفث والمباشرة مع هجر الطعام والشراب من الفجر إلى الليل؛ أضحى من اللازم التعريج على ما أنشأه الله تبارك وتعالى لكم من اللذة النفسية والغريزية بالحور العين، وقد جمع القرآن لهن هاتين الصفتين في قوله: "فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ " الرحمن (70)، أي خيرات الأخلاق حِسان الوجوه، فالأُولى لمتعة النفس، والثانية لِقُرَّةِ العين، والإثارة، ولما كانت بهجة النفس أسمى من لذة الجسد تقدَّم الخُلُقُ على الجمال.
هذا وقد ورد ذكر نساء الجنان فيما لا يقلُّ عن خمسةَ عشرَ موضعاً في القرآن، حَشَدَ فيها ما لا ينقص عن ثماني صفات لأولئك القاصرات الطرف اللائي لم يطمثهن إنس قبلنا ولا جان، ومن تلك الصفات ما يلي:
(1) أزواج مطهرة، كما في سورة البقرة (25)، وآل عمران (15)، والنساء (57) ذلك أن طهارتهن نوعان: حسية ومعنوية، أما الحسية فإنهن مطهرات من كل نجس أو قذر مما هو موجود في نساء الدنيا، حتى لو كُنَّ من التوابين ومن المتطهرين، فالدماء، والإفرازات، والبَخْرُ من الفم أو الفرج؛ فضلاً عن الريح وغيره، مما يعكِّر صفو الاستمتاع بهن، بالإضافة إلى طهارة ثيابهن من الاتِّساخ أو النجس، وبالأًوْلى الأرائك والفُرُش التي بطائنها من إستبرق، وظواهرها من السندس.
وأما النُّعوتُ المعنوية فهي الطهارة من الأخلاق السيئة، والصفات الذميمة، فلا فسوقَ ولا جدالَ، ولا بذاءةَ ولا فُحش؛ وإن منها عدم التطلع لغير أزواجهن، فهنَّ قاصرات الطرف عِين، وهنَّ حُورٌ مقصوراتٌ في الخيام، أيْ أنهن طاهرات مطهرات من الإثم والأذى.
(2) قاصرات الطرف، وقد وردت هذه الصفة في ثلاثة مواضع: الصافات (48)، وسورة ص (52)، والرحمن (56) وهذه الصفة يراد بها مجموع معنيين:
الأول: عدم التطلع إلى غير أزواجهن رِضاً وقناعة؛ بل إعجابٌ وافتتان، فلا يَرَيْنَ أجمل منهم، لا خَلْقاً ولا خُلُقاً.
الثاني: قَصْرُهُنَّ طَرْفَ أزواجهن عليهن، فهنَّ من الجمال والأدب بحيث يَأْسِرْنَ قلوب الأزواج وأعينَهم عن أن يَرَوْا مَنْ هُنَّ أحسنُ منهن، وكأنَّهُنَّ أجمل نساء الجنة، حتى لو كُنَّ مقصوراتٍ في الخيام، لا قاصرات؛ أي أنَّ حياءَهن بتأثيرٍ خارجي؛ كالحياء من الله، لا بافتتانٍ ذاتيٍّ كنساء المقرَّبين.
(3) الحور العين: وهن شديدات بياض الجزء الأبيض من العين، وشديدات سواد الجزء الأسود منها، مع سعة العيون، والسعة في العينين من مظاهر الجمال في ربَّات الحِجال، وانظر سورة الدخان (54)، الطور (20)، والرحمن (72)، والواقعة (22).
ولعل لفظ (الحور) مشتق من الحيرة؛ لأن زوجها يحار في جمالها؛ إذْ يرى مُخُّ ساقها من وراء جلدها من الرقة والصفاء؛ بل جاء في الأثر أنه يرى صورة وجهه في كبدها، وهي كذلك ترى صورة وجهها في كبده.
(4) البياض والصفاء لجلودهن، وقد ضرب المثل لهن بالياقوت والمرجان في سورة الرحمن (58)، وبالبيض المكنون في سورة الصافات (49) فهن كالياقوت صفاءً، والمرجان بياضاً لا يخلو من شُقْرة، وجلودهن في رقة غشاء البيضة مما يلي القشرة من داخلها، ولذلك كان شفافاً كالقوارير.
(5) الكواعب الأتراب: وهنَّ الشابات حتى إن أثداءهن مستديرة كحبة الرمان، ومن المعلوم أن أهل الجنة يَشِبُّون ولا يهرمون، ويكونون على سَنِّ سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام حين رفعه الله إليه في الثالثة والثلاثين، يتساوى في ذلك الرجال والنساء، وهو معنى الأتراب؛ إذْ أصل اشتقاقها من النزول من الأرحام إلى التراب في زمنٍ واحد.
(6) العُرُبُ الأتراب: وهن العاشقات لأزواجهن، المتحببات إليهم، ويظهر هذا في تغنجهنَّ وغنائهنَّ، ومن ذلك ما جاء في الأثر بشأنه: "نحنُ الخالداتُ فلا نموت، ونحنُ الناعماتُ فلا نَبْأَسُ أبداً، ونحن المقيماتُ فلا نَطْعَنُ أبداً، ونحن الراضياتُ فلا نَسْخَطُ أبداً، طُوبى لمن كُنَّا له، وكان لنا"، وانظر في ذلك سورة الواقعة (37)
(7) لم يسبق لأحد أن وطئهنَّ، كما جاء في سورة الرحمن: "لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ " الآيتان (56، 74)، والطمث هو الدم، فالآية تنفي عنهن أنهن قد تغشاهنَّ أحد من قبل، فأفضى إلى إسالة الدم منهن، وهذا أمتع للأزواج؛ حين يعلم أنه لم يسبقه أحدٌ إلى الإفضاء لهن، بخلاف نساء الدنيا فقد سبق لهن المضاجعة.
(8) كَوْنُهنَّ أبكاراً دائماً، إذْ بعد كلِّ وطءٍ تعود سيرتها الأُولى؛ لتكون في كل مرة كما لو كانت في ليلة زفاف، وذلك قول الله تعالى: "وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ . إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا " الواقعة (34-36).
إن هذه الصفة تعيدنا إلى آية المقال التي تؤكد أن أهل الجنة في شُغُلٍ يتفكهون به، فلا نَصَبَ فيه، ولا تعبَ، ولا لُغُوب، وأن ذلك الشغل يحصل لهم ولأزواجهم وهم على الأرائك متكئون، وقد فَسَّره العلماء بقطف الثمار، وافتضاض الأبكار، ولعل لفظ الظلال يشير إلى الثمار، كما يشير لفظ الأرائك إلى الوِقاع والجِماع.
بقي أن أذكر أن بعض أهل الجنة يصل عدد نسائه من الحور العين إلى سبعين، مع ثتنين أخريين من نساء الدنيا، وأن هاتين الزوجتين تفوقان الحور العينَ جمالاً؛ بسبب الصلاة والصوم والطاعة، وأن الفرق بينهما وبين السبعين كالفرق بين ظِهارة الثوب وبطانته.
وأسأل الله عفوه ورحمته ورضوانه